كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وإن حمل القرب على المجاز، أي الدلالة على الإمكان، فالمعنى: اتضح للناس ما كانوا يجدونه محالًا من فناء العالم فإن لحصول المُثُل والنظائر إقناعًا بإمكان أمثالها التي هي أقوى منها.
وعطفُ {وانشق القمر} عطفُ جملة على جملة.
والخبر مستعمل في لازم معناه وهو الموعظة إن كانت الآية نزلت بعد انشقاق القمر كما تقدم لأن علمهم بذلك حاصل فليسوا بحاجة إلى إفادتهم حكم هذا الخبر وإنما هم بحاجة إلى التذكير بأن من أمارات حلول الساعة أن يقع خسف في القمر بما تكررت موعظتهم به كقوله تعالى: {فإذا برق البصر وخسف القمر} [القيامة: 7، 8] الآية إذ ما يأمنهم أن يكون ما وقع من انشقاق القمر أمارة على اقتراب الساعة فما الانشقاق إلا نوع من الخسف فإن أشراط الساعة وعلاماتها غير محدودة الأزمنة في القرب والبعد من مشروطها.
{وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقولوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2)}.
يجوز أن يكون تذييلًا للإِخبار بانشقاق القمر فيكون المراد بـ {آية} في قوله: {وإن يروا آية} القمرَ.
فقد جاء في بعض الآثار: أن المشركين لما رأوا انشقاق القمر قالوا: هذا سحر محمد بن أبي كبشةوفي رواية قالوا: قد سَحَر محمد القمر، ويجوز أن يكون كلامًا مستأنفًا من ذكر أحوال تكذيبهم ومكابرتهم وعلى كلا الوجهين فإن وقوع {آية}، وهو نكرة في سياق الشرط يفيد العموم.
وجيء بهذا الخبر في صورة الشرط للدلالة على أن هذا ديدنهم ودأبهم.
وضمير {يروا} عائد إلى غير مذكور في الكلام دال عليه المقام وهم المشركون، كما جاء في مواضع كثيرة من القرآن، مع أن قصة انشقاق القمر وطعنهم فيها مشهور يومئذٍ معروفة أصحابه، فهم مستمرون عليه كلما رأوا آية على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ووصف {مستمر} يجوز أن يكون مشتقًا من فعل مَرّ الذي هو مجاز في الزوال والسين والتاء للتقوية في الفعل، أي لا يبقى القمر منشقًا.
ويجوز أن يكون مشتقًا من المِرة بكسر الميم، أي القوة، والسين والتاء للطلب، أي طلب لفعله مِرّة، أي قوة، أي تمكنًا.
والمعنى: هذا سحر معروف متكرر، أي معهود منه مثله.
{وَكَذَّبُواْ واتبعوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ}.
هذا إخبار عن حالهم فيما مضى بعد أن أخبر عن حالهم في المستقبل بالشرط الذي في قوله: {وإن يروا آية يعرضوا} [القمر: 2].
ومقابلة ذلك بهذا فيه شبه احتباك كأنه قيل: وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا: سحر، وقد رأوا الآيات وأعرضوا وقالوا: سحر مستمر، وكذبوا واتبعوا أهوائهم وسيكذبون ويتبعون أهواءهم.
وعَطْف {واتبعوا أهواءهم} عطفُ العلة على المعلول لأن تكذيبهم لا دافع لهم إليه إلا اتباعُ ما تهواه أنفسهم من بقاء حالهم على ما ألفوه وعهدوه واشتهر دوامه.
وجمع الأهواء دون أن يقول واتبعوا الهوى كما قال: {إن يتبعون إلا الظن} [الأنعام: 116]، حيث إن الهوى اسم جنس يصدق بالواحد والمتعدد، فعدل عن الإِفراد إلى الجمع لمزاوجة ضمير الجمع المضاف إليه، وللإِشارة إلى أن لهم أصنافًا متعددة من الأهواء: من حب الرئاسة، ومن حسد المؤمنين على ما آتاهم الله، ومن حب اتباع ملة آبائهم، ومن محبة أصنامهم، وإلففٍ لعوائدهم، وحفاظ على أنفتهم.
{وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرّ}.
هذا تذييل للكلام السابق من قوله: {وإن يروا آية يعرضوا} إلى قوله: {أهواءهم} [القمر: 2، 3]، فهو اعتراض بين جملة {وكذبوا} وجملة {ولقد جاءهم من الأنباء} [القمر: 4]، والواو اعتراضية وهو جار مجرى المثل.
و {كل} من أسماء العموم.
وأمر: اسم يدل على جنس عالٍ ومثله شيء، وموجود، وكائن، ويتخصص بالوصف كقوله تعالى: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به} [النساء: 83] وقد يتخصص بالعقل أو العادة كما تخصّص شيء في قوله تعالى عن ريح عَاد {تدمّر كل شيء} [الأحقاف: 25] أي من الأشياء القابلة للتدمير.
وهو هنا يعم الأمور ذوات التأثير، أي تتحقق آثار مواهِيها وتظهر خصائصها ولو اعترضتها عوارض تعطل حصول آثارها حينًا كعوارضَ مانعة من ظهور خصائصها، أو مدافعات يراد منها إزالة نتائجها فإن المؤثرات لا تلبث أن تتغلب على تلك الموانع والمدافعات في فُرصصِ تَمكنها من ظهور الآثار والخصائص.
والكلام تمثيل شبهت حالة تردد آثار الماهية بين ظهور وخفاء إلى إبان التمكن من ظهور آثارها بحالة سير السائر إلى المكان المطلوب في مختِلف الطرق بين بُعد وقرب إلى أن يستقر في المكان المطلوب.
وهي تمثيلية مكنية لأن التركيب الذي يدل على الحالة المشبه بها حُذِف ورمز إليه بذكر شيء من روادف معناه وهو وصف مستقر.
ومن هذا المعنى قوله تعالى: {لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون} [الأنعام: 67] وقد أخذه الكميّت بن زيد في قوله:
فالآن صِرت إلى أميةَ ** والأمورُ إلى مصائر

فالمراد بالاستقرار الذي في قوله: {مستقر} الاستقرار في الدنيا.
وفي هذا تعريض بالإِيماء إيماء إلى أن أمر دعوة محمد صلى الله عليه وسلم سيرسخ ويستقر بعد تقلقله.
ومستقِر: بكسر القاف اسم فاعل من استقر، أي قَرّ، والسين والتاء للمبالغة مثل السين والتاء في استجاب.
وقرأ الجمهور برفع الراء من {مستقر}.
وقرأه أبو جعفر بخفض الراء على جعل {كل أمر} عطفًا على {الساعة} [القمر: 1].
والتقدير: واقترب كل أمر.
وجَعل {مستقر} صِفة {أمر}.
والمعنى: أن إعراضهم عن الآيات وافتراءهم عليها بأنها سحر ونحوه وتكذيبهم الصادق وتمالؤهم على ذلك لا يوهن وقعها في النفوس ولا يعوق إنتاجها.
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم صائر إلى مصير أمثاله الحق من الانتصار والتمام واقتناع الناس به وتزايد أتباعه، وأن اتباعهم أهواءهم واختلاق معاذيرهم صائر إلى مصير أمثاله الباطلة من الانخذال والافتضاح وانتقاص الأَتباع.
وقد تضمن هذا التذييل بإجماله تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم وتهديدًا للمشركين واستدعاء لنظر المترددين.
{وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4)}.
عطف على جملة {وكذبوا واتبعوا أهواءهم} [القمر: 3] أي جاءهم في القرآن من أنباء الأمم ما فيه مزدجر لهؤلاء، أو أريد بالأنباء الحجج الواردة في القرآن، أي جاءهم ما هو أشد في الحجة من انشقاق القمر.
و {من الأنباء} بيان ما فيه مزدجر قدم على المبين و{من} بيانية.
والمُزدجر: مصدر ميمي، وهو مصاغ بصيغة اسم المفعول الذي فعله زائد على ثلاثة أحرف.
ازدجره بمعنى زجره، ومادة الافتعال فيه للمبالغة.
والدال بدل من تاء الافتعال التي تبدل بعد الزاي إلاّ مثل ازْداد، أي ما فيه مانع لهم من ارتكاب ما ارتكبوه.
والمعنى: ما هو زاجر لهم فجعل الازدجار مظروفًا فيه مجازًا للمبالغة في ملازمته له على طريقة التجريد كقوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [الأحزاب: 21] أي هو أسوة.
و {حكمة بالغة} بدل من {مَا}، أي جاءهم حكمةٌ بالغة.
والحكمة: إتقان الفهم وإصابة العقل.
والمراد هنا الكلام الذي تضمن الحكمة ويفيد سامعه حكمة، فوصْفُ الكلام بالحكمة مجاز عقلي كثير الاستعمال، وتقدم في سورة البقرة (269)، {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا} والبالغة: الواصلة، أي واصلة إلى المقصود مفيدة لصاحبها.
وفرع عليه قوله: {فما تغن النذر}، أي جاءهم ما فيه مزدجر فلم يُغن ذلك، أي لم يحصل فيه الإقلاع عن ضلالهم.
و {ما} تحتمل النفي، أي لا تغني عنهم النذر بعد ذلك.
وهذا تمهيد لقوله: {فتول عنهم} [القمر: 6]، فالمضارع للحال والاستقبال، أي ما هي مغنية، ويفيد بالفحوى أن تلك الأنباء لم تغن عنهم فيما مضى بطريق الأحرى، لأنه إذا كان ما جاءهم من الأنباء لا يغني عنهم من الانزجار شيئًا في الحال والاستقبال فهو لم يغن عنهم فيما مضى إذ لو أغنى عنهم لارتفع اللوم عليهم.
ويحتمل أن تكون {مَا} استفهامية للإِنكار، أي ماذا تفيد النذر في أمثالهم المكابرين المصرين، أي لا غناء لهم في تلك الأنباء، ف {ما} على هذا في محل نصب على المفعول المطلق ل {تغن}، وحذف ما أضيفت إليه {ما}.
والتقدير: فأي غناء تغني النذر وهو المخبر بما يسوء، فإن الأنباء تتضمن إرسال الرسل من الله منذرين لقومهم فما أغنوهم ولم ينتفعوا بهم ولأن الأنباء فيها الموعظة والتحذير من مثل صنيعهم فيكون المراد بـ {النذر} آيات القرآن، جعلت كل آية كالنذير: وجمعت على نُذُر، ويجوز أن يكون جمع نذير بمعنى الإِنذار اسم مصدر، وتقدم عند قوله تعالى: {هذا نذير من النذر الأولى} في آخر سورة النجم (56).
{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6)}.
{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ}.
تفريع على {فما تغن النذر} [القمر: 5]، أي أعرِضْ عن مجادلتهم فإنهم لا تفيدهم النذر كقوله: {فأعرض عمن تولى عن ذكرنا} [النجم: 29]، أي أنك قد بلّغت فما أنت بمسؤول عن استجابتهم كما قال تعالى: {فتول عنهم فما أنت بملوم} [الذاريات: 54].
وهذا تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم وتطمين له بأنه ما قَصر في أداء الرسالة.
ولا تعلّق لهذه الآية بأحكام قتالهم إذ لم يكن السياق له ولا حدثت دواعيه يومئذٍ فلا وجه للقول بأنها منسوخة.
{يَوْمَ يَدْعُو الداع إلى شيء نُّكُرٍ خُشَّعًا أبصارهم يَخْرُجُونَ مِنَ الاجداث كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ مُّهْطِعِينَ إِلَى الداع يَقول الكافرون هذا يَوْمٌ عَسِرٌ}.
استئناف بياني لأن الأمر بالتولّي مؤذن بغضب ووعيد فمن شأنه أن يثير في نفس السامع تساؤلًا عن مجمل هذا الوعيد.
وهذا الاستئناف وقع معترضًا بين جملة {ولقد جاءهم من الأنباء} [القمر: 4] وجملة {كذبت قبلهم قوم نوح} [القمر: 9].
وإذ قد كان المتوعد به شيئًا يحصل يوم القيامة قدم الظرف على عامله وهو {يقول الكافرون هذا يوم عسر} ليحصل بتقديمه إجمال يفصّله بعض التفصيل ما يُذكر بعده، فإذا سمع السامع هذا الظرف علم أنه ظرف لأهوال تذكر بعده هي تفصيل ما أجمله قوله: {فتول عنهم} من الوعيد بحيث لا يحسن وقع شيء مما في هذه الجملة هذا الموقع غير هذا الظرف، ولولا تقديمه لجاء الكلام غير موثوق العرى، وانظر كيف جمع فيما بعد قوله: {يوم يدع الداع} كثيرًا من الأهوال آخذٌ بعضها بحجز بعض بحسن اتصال ينقل كل منها ذهن السامع إلى الذي بعده من غير شعور بأنه يُعدّد له أشياءَ.
وقد عُدّ سبعة من مظاهر الأهوال:
أولها: دعاء الداعي فإنه مؤذن بأنهم محضرون إلى الحساب، لأن مفعول {يدع} محذوف بتقدير: يدعوهم الداعي لدلالة ضمير {عنهم} على تقدير المحذوف.
الثاني: أنه يدعو إلى شيء عظيم لأن ما في لفظ {شيء} من الإِبهام يُشعر بأنه مهول، وما في تنكيره من التعظيم يجسم ذلك الهول.
وثالثها: وصف شيء بأنه {نكر}، أي موصوف بأنه تنكره النفوس وتكرهه.
والنكُر بضمتين: صفة، وهذا الوزن قليل في الصفات، ومنه قولهم: روضة أُنُف، أي جديدة لم ترعها الماشية، ورجل شُلُل، أي خفيف سريع في الحاجات، ورجل سُجُح بجيم قبل الحاء، أي سمح، وناقة أُجُد: قوية موثقة فَقار الظهر، ويجوز إسكان عين الكلمة فيها للتخفيف وبه قرأ ابن كثير هنا.
ورابعها: {خشعًا أبصارهم} أي ذليلة ينظرون من طرف خفي لا تثبت أحداقهم في وجُوه الناس، وهي نظرة الخائف المفتضح وهو كناية لأن ذلة الذليل وعزة العزيز تَظهران في عيونهما.
وخامسها: تشبيههم بالجراد المنتشر في الاكتظاظ واستتار بعضهم ببعض من شدة الخوف زيادة على ما يفيده التشبيه من الكثرة والتحرك.
وسادسها: وصفهم بمهطعين، والمُهطع: الماشي سريعًا مادًّا عنقه، وهي مشيئة مذعور غير ملتف إلى شيء، يقال: هطع وأهطع.
وسابعها: قولهم: {هذا يوم عسر} وهو قول من أثر ما في نفوسهم من خوف.
و {عسر}: صفة مشبهة من العُسر وهو الشدة والصعوبة.
ووصف اليوم بـ {عسر} وصف مجازي عقلي باعتبار كونه زمانًا لأمور عسرة شديدة من شدة الحساب وانتظار العذاب.
وأبهم {شيء نكر} للتهويل، وذلك هو أهوال الحساب وإهانة الدفع ومشاهدة ما أُعد لهم من العذاب.
وانتصب {خشعًا أبصارهم} على الحال من الضمير المقدر في {يدع الداع} وإمّا من ضمير {يخرجون} مقدمًا على صاحبه.
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم وأبو جعفر {خشعًا} بصيغة جمع خاشع.
وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف {خَاشِعًا} بصيغة اسم الفاعل.
قال الزجاج: لك في أسماء الفاعلين إذا تقدمت على الجماعة التوحيدُ والتذكيرُ نحو خاشعًا أبصارُهم.